الأكوان الموازية والثورة الكمِّية | كريسطوف غالفار | TEDxParis

انطلاقا من لويس دو بروغلي الحائز على جائزة نوبل للفيزياء سنة 1929، ووصولًا إلى سيرج هاروش الحائز على جائزة نوبل للفيزياء سنة 2012، انطلِقوا في رحلة مدتها قرن كامل لتكتشفوا قط شرودنغر وعالم الكمّ والأكوان الموازية.
كريسطوف غالفار دكتور في الفيزياء النظرية من جامعة كمبريدج وتلميذ سابق لستيفن هاوكينغ، يهوى مشاركة المعرفة العلمية مع الجمهور الواسع حيث أنتج حلقات علمية "الكون في ثلاث دقائق" و"الكون في متناول اليد" على إذاعة فرانس أنتر بين عام 2013 وعام 2015. كما أنه يظهر دوريا على وسائل الإعلام لشرح التطورات العلمية الحديثة. كتابه الأخير بعنوان "الكون في متناول اليد"، الذي يتحدث عن مكانة الإنسان في الكون عبر رحلة كونية وكمَّية، أصبح من بين الكتب الأكثر مبيعًا في العالم حيث تُرجم إلى 14 لغة.
ألقيت هذه المحادثة في مؤتمر TEDx باستخدام صيغة مؤتمر TED، ولكن بتنظيمٍ مستقل من قبل المجتمع المحلي. لمعرفة المزيد يرجى زيارة: TED.http://ted.com/tedx

هل سبق لكم أن تساءلتم عن طبيعة الكون؟

لا أقصد كونًا تجريديًا،

بل كوننا الذي نسكن فيه،
الذي أنتم فيه الآن.

هل سبق لكم أن تساءلتم
عن جسمكم مم يتكون؟

عن الهواء الذي تستنشقون؟
أو حتى الكراسي التي تجلسون عليها؟

إذا كان الجواب نعم،

فلا بد أنكم قد لاحظتم أنه توجد من حولنا

مؤشرات تمكننا من فهم كل هذه الأمور.

مثلًا، إذا أخذت هذا الكوب
وهو مملوء بالماء،

ثم ألقيته عليكم،

فسيميل بعضكم جانبًا.

لا أحد في القاعة،
ولا حتى على الكرة الأرضية،

يعتقد أن الماء المتطاير من الكوب
سوف يتوقف وسط المسار،

ليعود أدراجه إلى الكوب.

لماذا؟

لأننا جميعًا لدينا حدس
بوجود قوانين في الطبيعة.

وأن هذه القوانين لا يمكن أن تُخترق.

الهدف من الفيزياء النظرية
هو اكتشاف هذه القوانين.

يجب أن نعترف أننا نحن البشر
لدينا مهارة في هذا المجال.

سأعطيكم فكرة بسيطة.

منذ عهد نيوتن، نستطيع أن نصف
كل ما يجري حولنا،

كيف تتصرف الأشياء،
نعرف كل هذا.

لكن مند عهد نيوتن، ذهبنا إلى أبعد من هذا.

دخلنا حتى في عالم يفوق حواسنا.

عالم لم يعد ينفع فيه الحدس.

عالم مبهر، سترون.

في عام 1905، تعلمنا من آينشتاين

أن الضوء متكون من حزمات طاقوية صغيرة.

تسمى الحزمات باللاتينية "كوانطا".

لقد فتح آينشتاين، مع علماء آخرين،
بابًا نحو عالم جديد،

عالم الميكانيكا الكمية والفيزياء الكمية،

عالم المجهريات، عالم الأشعة الضوئية.

دعوني أذهب بمخيلتكم

إلى سنة 1924 في باريس،

حيث قام عالم شاب
بنشر رسالته لنيل الدكتوراه.

عمره 32 سنة، واسمه لويس دي برولي

ويدّعي أمرًا عجيبًا.

هو يرتكز على حساباته ليقول لنا
أن الضوء والمادة،

الضوء الذي حولنا
والمادة التي تتكوّن منها أجسادنا،

لا يكادان يختلفان.

تتكون المادة نفسها من حزمات طاقوية صغيرة.

وبالتالي فإن المادة نفسها
تخضع لقوانين عالم الكمّ.

فقط من أجل هذه الفكرة، فقد حقق دي برولي

حلم كل طلاب الدكتوراه في العالم،
بتحصله بعد 7 سنوات

على جائزة نوبل بفضل أطروحته.

هذا أمر لا بأس به.

وأحد مؤسسي الفيزياء الكمية،

أسرع بالأخذ بهذه الفكرة،

واستند إليها

لمحاولة اكتشاف كيفية سير عالم المجهريات.

تصوروا أنه نجح واكتشف معادلة

تدعى معادلة شرودنغر،

التي تصف كيفية تصرف كل جزيئات الكون.

لقد قام نوعًا ما في عالم المجهريات
بما قام به نيوتن

في عالمنا الذي حولنا.
إذا أطلقتم سهمًا،

سيخبركم نيوتن أين سيقع.

وإذا أطلقتم جزيئة،

فسيخبركم شرودينغر ماذا سيحصل لها.

لكن لسوء الحظ، فإن الجزيئات
في عالم المجهريات

ليست كالسهام.

ليست حتى كالكريات الصغيرة.

علينا بالأحرى أن نتخيل ما يشبه سحابة

فيها الكثير من الكريات الصغيرة
التي قد تكون أو لا تكون،

التي قد تتواجد أو لا تتواجد،
متطابقة في نفس الوقت

وتظهر في كل الأنحاء.

تصف لنا معادلة شرودنغر

كيف أن هذه السحابة ستتحول عبر الزمن،

وما اكتشفه غريب جدًّا.

لكي أبسط لأذهانكم

ما يعنيه هذا بالنسبة لعالمنا الذي نعرفه،

سأحدثكم عن تجربة فكرية قام بها

تدعى تجربة قطّ شرودنغر.

هي كالتالي:

في هذه العلبة يوجد قطّ.

(مواء)

آه، يبدو أنه كان نائمًا،
على أية حال يوجد قط.

لكن القط ليس وحده.

وهو منزعج نوعًا ما
لأن شرودنغر وضع بجانبه،

وهو ما وضعته أنا كذلك، مادة مشعة.

ما معنى مادة مشعة؟
هي مادة قابلة للانقسام إلى نصفين.

لهاذا السبب طلبنا من الصف الأول
إمضاء وثيقة تنازل،

لأن العلبة مشعة.

هي إذن مادة قابلة للانقسام
تلقائيًا إلى نصفين

دون أن نعلم مسبقًا متى سيحدث هذا.

إذن هذه المادة التي في الداخل

لديها فرصة من بين اثنين

لتنقسم ما بين الآن ونهاية التجربة.

لكن شرودنغر لم يكتف بهذا.

بل وضع إلى جانب هذه المادة

جهازًا عبقريًا لكنه شيطاني

بحيث أنه إذا انقسمت المادة،

فسينبعث سمّ ويموت القط.

أما إذا لم تنقسم المادة،
فسيبقى القط آمنًا.

قوانين الفيزياء الكمية تخبرنا

أننا ما دمنا لم نر ما يجري في الداخل

ما دمنا لم نفتح العلبة،

فالمادة المشعة انقسمت
ولم تنقسم في آن واحد.

ما يعني أن السم انبعث
ولم ينبعث في آن واحد،

ما يعني أن القط في الداخل

ليس حيًا أو ميتًا،
بل حيًا وميتًا في نفس الوقت.

يبدو هذا منافٍ للعقل وأنا أتفق معكم.

لكن هذا ما تقوله الرياضيات،
وإنها جازمة في ذلك!

إذا كانت فعلًا قوانين فيزياء الكمّ،
كما نعرفها، مثبتة،

فإن شرودنغر يقول لنا من خلال تجربته

أن في الداخل يوجد قط
حي وميت في نقس الوقت.

أقترح عليكم أن نتأكد من ذلك في الحين.

(مواء)

آه، من الجيد أنه لم يمت.

لكن كان هناك قط واحد.

ربما مثلما كنتم تتوقعون.
وأنتم الآن مطمئنون

لأن القط حي ولم يمت،
لكن ما يزعجني كثيرًا

هو أنه لا يوجد إلا قط واحد في الداخل.

بما أنني أؤمن بالرياضيات
ومن ثم بالفيزياء،

فإذا كانت الرياضيات تقول
أنه لا بد من وجود قطين في الداخل،

فالسؤال المطروح هو: أين ذهب القط الميت؟

كان يُفترض أن يكون هنا لكنه ليس هنا،
فأين هو إذن؟

قد يبدو هذا السؤال سخيفًا
لكن هناك علماء يتقاضون أموالًا

من أجل أن يجدوا له جوابًا.

(ضحك)

وحتى أنهم يتقاضون هذه الأموال
منذ سنين عديدة.

قام شرودنغر بهذه التجربة الفكرية
ونشرها سنة 1935.

ولمدة عشر أو حتى عشرين سنة من بعد

فإن جل علماء العالم بحثوا عن القط الميت!

حتى جاء شاب أمريكي يدعى هيو إيفرت الثالث

بحل خرافي للغاية!

قال إذا كان آينشتاين ودي برولي على حق،

وهذا ما يبدو،

فإن المادة والضوء هما "كمّيان"،

وبما أن الكون كله مشكل من مادة وضوء،

فلا يوجد أي سبب على الإطلاق

لأن يكون الكون بدوره غير كمّي.

وبالتالي لأن يكون هناك تطابق
لعدة حالات من هذا الكون،

مما يفتح المجال لاحتمالات عدة.

ما يعني أنه قبيل فتحي للعلبة،

كان كلا القطين في الداخل

ثم عندما فتحتها،
انقسم الكون كله إلى نصفين:

في النصف الأول وهو الذي نعيش فيه،
حيث القط حي،

وفي النصف الثاني حيث كان القط ميتًا.

هذا النصف الثاني هو كون موازٍ لكوننا،

يستمر بالعيش إلى الأبد.

قيل لي أنه في نهاية أحد دروسه
في فيزياء الكمّ،

قال آينشتاين لتلاميذه:

"إذا تمكنتم من فهمي
فهذا يعني أنني لم أكن واضحًا."

(ضحك)

تصوروا أن هيو إيفرت الثالث
لم يتحصل على جائزة نوبل

مقابل نشره رسالته، بالعكس

لقد تخلى عن الفيزياء قائلًا: "هذا هراء."

(ضحك)

على الرغم من أنه كان محقًا.

لكن لإثبات ذلك في عصره،

كان يجب رؤية الذرات واحدة بواحدة.

رؤيتها في حالات متطابقة

واختبارها ومراقبتها.

في عصره لم يكن هذا ممكنًا إطلاقًا.

لكن هذا أصبح ممكنًا في زماننا.
ففي أواخر تسعينيات القرن العشرين،

وفي مختبرات مدرسة الأساتذة العليا بباريس،

حقق البروفسور سيرج آروش
مع فريقه العلمي أمرًا مذهلًا

حين قام بتجربة من نوع قط شرودنغر.

لم يكن هذا باستعمال قط بل ذرات كبيرة وضوء.

وما شاهده في هذه التجربة

هو أن الذرات كانت في حالات متطابقة.

مثل القط الحي والميت في نفس الوقت.

حتى أنه شاهد إحدى الحالتين
تختفي لتبقى الأخرى

فيظهر بذلك عالمنا الذي نعرفه.

تحصَّل بفضل هذه التجربة
على جائزة نوبل للفيزياء قبل 3 سنوات.

انطلقنا من عام 1924
مع جائزة نوبل من نصيب لويس دي برولي

حتى وصلنا إلى 2012
مع جائزة نوبل من نصيب سيرج آروش

باتباع فكرة جالت بنا عبر الزمان والمكان.

لماذا قصصت عليكم كل هذا؟

لماذا اتبعنا ما يشبه هذيان علماء
يبدون مجانين

يتكلمون عن قطط أحياء وأموات في نفس الوقت،

وعن أكوان موازية في كل مكان؟

هل هذا ينفعنا في شيء؟
صراحة، أتقبل جيدًا

أن لا تفهموا الجدوى من تمويل البحوث،

لكنكم على خطأ.

بفضل اكتشافات دي برولي ومعادلة شرودنغر

صُنعت كل الأشياء التي تستعملونها اليوم:

الحواسيب والهواتف النقالة وأشعة الليزر،

وتقريبًا كل الأجهزة الطبية
التي تجدونها في المستشفيات.

لكنكم ستسألونني : "وماذا عن اكتشاف آروش؟"

تصوروا أن هذا الاكتشاف

يفتح المجال لثورة صناعية وتكنولوجية.

عندما تمكَّن آروش من رؤية
ما يعادل القط الحي والميت،

فقد فتح المجال لحواسيب المستقبل،

التي تُسمَّى الحواسيب الكمية.

الحاسوب الكمي هو آلة

تستعمل بداخلها تطابق حالات الذرات.

هل أنتم معي؟

بفضل هذا، فإن هذه الذرات الصغيرة
وهذه الآلات،

قادرة على إنجاز عمليات كأنها متواجدة

في مليارات الأكوان الموازية في نفس الوقت.

هذا يعني أنه بالنسبة
لحاسوب واحد من هذا النوع

ستبدو كل الحواسيب الحديثة

كأنها معدات جد بدائية.

البحث الأساسي هو تخصص علمي
يكاد أن يكون خفيًا

أو حتى سريًا في بعض الأحيان.

بالرغم من أنه منبع الثورات العلمية،

والعباقرة الذين يبحثون في هذا المجال

يأتون من كل مكان في العالم.

سيرج آروش مثلًا،

هذا الذي كنا نتكلم عنه،
ولد في مدينة الدار البيضاء بالمغرب،

ثم جاء إلى فرنسا وهو في 12 من عمره.

وهنا أفتح قوسًا:
لو أغلقنا حدودنا في تلك الفترة

لكنا قد حرمنا فرنسا
من جائزة نوبل في الفيزياء

ومن تطبيقاتها المذهلة المحتملة.

(تصفيق)

المعارف العلمية ملك للجميع،

ملك لي ولكم وللأطفال الذين يولدون هنا
وللأطفال الذين يولدون في أماكن أخرى.

إنه من واجبنا أن نشاركها وأن نتداولها.

ثمار العلوم يجب أن ينتفع بها الجميع.

ولأنه من المحتمل، بل من الممكن جدًا،

أن يأتي طفل من مكان آخر
يحمل في يديه اليوم

مفاتيح مستقبل عالمنا نحن
وليس عالمًا موازيًا.

شكرًا جزيلًا لكم.

(تصفيق)