-
بسم الله، والحمد لله، وأصلي وأسلم
-
على رسول الله ومصطفاه وبعد.
-
هذا شرح لقصيدة النابغة التي يعتذر فيها إلى النعمان
-
قال
-
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني... وتلك التي أهتم منها وأنصب.
-
ومناسبة القصيدة أن النابغة كان ينادم النعمان ويصاحبه.
-
وقد اصطفاه النعمان لنفسه وفضله على غيره من الشعراء
-
وكانا مثلا للمتحابين يقطع بينهما الكذوب.
-
ودب الوشاة بينهما، فهرب النابغة إلى الشام إلى الغساسنة أعداءُ النعمان.
-
ومدحهم وأكرموه. عاش فيهم في عيش رغد
-
ولكنه كان يحب النعمان حبا جما
-
فرجع إلى الحيرة على خوف من النعمان
-
وتبرأ إليه من كل التهم الموجهة إليه.
-
فانظر كيف قال.
-
قال :
-
أتاني-أبيت اللعنَ- أنك لمتني وتلك التي أهتمُ منها وأنصبُ
-
فبتُ كأن العائداتِ فرشن لي هَراسا به يُعلى فراشي ويقشبُ
-
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً وليس وراء اللهِ للمرء مذهبُ
-
لئن كنتَ قد بُلغت عني خيانةً لمبْلِغُك الواشي أغشُ وأكذب
-
يقول :
-
يقول بلغني أيها الملك أنك لمتني
-
وهذه الملامة منك جعلتني ذو هم وذو تعب ونصب
-
و أتاني: أي جاءني خبر ملامتك لي وغضبك علي
-
في القرآن هل أتاك حديث موسى.
-
أبيت اللعن : هي تحية الملوك في الجاهلية
-
أي لم تأت من الأفعال ما تلعن عليه وأفعالُك كلها حميدة
-
(أهتم)أي: يصيبني الهم. (أنصب)أي يصيبني النصب، والنصب هو التعب. فإذا فرغت فانصب.
-
وقال النابغة ُ في معنى قريب في قصيدة أخرى :
-
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني وتلك التي تستك منها المسامع
-
و (السكك) هو الصمم.
-
قال :
-
فبتُ كأن العائداتِ فرشن لي هَراساً به يُعلى فراشي ويقشبُ
-
يقول :
-
بت ليلي من خوفك أيها الملك ومن الهم والنصب
-
كأني مريض فرش له النسوة اللواتي يزرنه فراشه بالشوك
-
فهو لاينام بالليل خوفا
-
كمريض فرش فراشه بالشوك فأنى ينام؟
-
وفي المثل يقال : ليلة نابغية. أي كلها خوف.
-
و (العائدات) هم النسوة اللواتي يزرن المريض ويعدنه.
-
و (الهَراس) شجر ذو شوك.
-
يقول ُ :
-
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً وليس وراء اللهِ للمرء مذهبُ
-
يحلف للملك ويقول: حلفت لك بالله حتى أزيل الشك الذي في نفسك
-
والله هو أعظم ما يقسم به المرء
-
وليس للمرء بعد أن حلف بالله أن يذهب ليحلف بغيره.
-
فالله هو الأعظم، لذا يجب أن تصدقني .
-
وأين يذهب الحالفُ بعد أن يحلفَ بالله ؟!
-
لئن كنتَ قد بُلغت عني خيانةً.... لمبْلِغُك الواشي أغشُ وأكذب
-
يقول ُ:
-
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً وليس وراء اللهِ للمرء مذهبُ
-
و (الريبة) هي: الشك
-
والجمع رِيب بكسر الراء
-
في القرآن : لا يزال بنيانـُهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم.
-
و (المرء) هو الإنسان.
-
حلفت قسم جوابه : لئن كنت قد بلغت عني وشاية
-
أو لئن كنت قد بلغت عني خيانة ً
-
وكان النابغة دائما ما يحلف ويقسم بالله للنعمان أنه بريء
-
فقال حالفا في معلقته :
-
فلا لعمرُ الذي مسّحتُ كعبته وما هريق على الأنصابِ من جسدِ
-
والمؤمنِ العائذاتِ الطيرَ تمسحُها ركبان مكة بين الغيلِ والسعدِ
-
ما قلتُ من سئٍ مما أوتيتَ به إذا فلا رفعت سوطي إلي يدي
-
ويقول أيضا :
-
حلفتُ فلم أترك لنفسك رِيبةً وهل يأثمن ذو إمّةٍ وهو طائعُ؟
-
أي حلفتُ لك فلا يبقى في نفسك شك
-
وانا ذو دين واستقامة وطاعة لك
-
أخاف أن احلف كذبا فيدركَني الإثم.
-
ويستمرُ
-
في سَوْق كلامه اعتذاراً للنعمان :
-
لئن كنتَ قد بُلغت عني خيانةً لمبْلِغُك الواشي أغشُ وأكذب
-
يقول ُ :
-
لئن بلغك الحاسدون أني قد خنتك
-
وكفرت نعمتك وخنت ودادك
-
فإن هؤلاء الوشاة النمامون ذوو غش وذوو كذب.
-
لئن كنتَ قد بُلغت عني خيانةً.... لمبْلِغُك الواشي أغشُ وأكذب
-
(الواشي) : هو النمامُ الذي يزين الكذب وينمقه.
-
و أصله من وَشْي الثوب: وهو تزيينه وتلوينه.
-
يقول أيضا في معنى قريب :
-
أتاك بقولٍ هلهلِ النسج كاذب ٍ ولم يأتِ بالحقِ الذي هو ناصعُ
-
أتوعدُ عبداً لم يخنك أمانة ً وتتركُ عبداً ظالماً وهو ضالعُ؟
-
أي متمادٍ في ظلمه.
-
ويقول، يحلف أيضاً له يقول :
-
ولو كفي اليمينُ بغتك خونا لأفردت اليمين من الشمال
-
أي لو خانتك يدي اليمنى لقطعتها وأفردتها عن يدي اليسرى
-
انظر إلى هذه البلاغة
-
ولو كفي اليمينُ بغتك خونا لأفردتُ اليمين من الشمال
-
لئن كنتَ قد بُلغت عني خيانةً لمبْلِغُك الواشي أغشُ وأكذب
-
وفي كل هذا يتبرأ هو للنعمان من الكذب الذي وصله - قال :
-
ولكني كنت أمراً لي جانبُ من الأرض فيه مسترادُ ومطلبُ
-
ولكني أيها الملكُ كنت رجلا أعيشُ في متسعٍ من الأرض
-
ذو مكانة عند الغساسنة في أرض الشام.
-
وكنت أترددُ عليهم وأذهبُ لهم.
-
و (جانب من الأرض) يعني أرض الشام حيث الغساسنة
-
(مستراد) اسم مكان: أي مكان أتردد فيه لطلب الرزق.
-
و راد المكان: ذهب فيه وجاء. و (مطلب)هو الشئ الذي يطلب .
-
ولكني كنت أمراً لي جانبُ من الأرض فيه مسترادُ ومطلبُ
-
ملوكُ وإخوانٌ إذا ما أتيتُهم أُحكّمُ في أموالِهم وأقربُ
-
يقول ُ
-
أن الغساسنة َ الذين فررتُ إليهم خوفاً منك
-
هو ملوك وإخوان لي،
-
إذا جئتهم يقربوني إليهم زلفى وأكون واحدا منهم
-
أتحكم وأتصرف في أموالهم، فأنفق ما أشاء.
-
وأنى أشاء، يصفهم بمكارم الأخلاق.
-
وهذا مما تمتدح به الملوك.
-
وكل هذا يعلل ويفسر للنعمان لماذا ذهب إليهم واستعصم بهم.
-
وكان الغساسنة ُ يقربون الشعراء
-
وقد مدحهم سيدُنا حسان بن ثابت قبل اسلامه
-
وكان النابغةُ وعلقمةُ بن عَبَدة جالسَين عند الملك
-
عند الملك عمرو بن الحارث الغساني فأشفق الملكُ على حسان
-
أن يقولَ شعراً أمامهم فقال :
-
إن باعثٌ إليك بهديةٍ سنيةٍ ولا تقول الشعر
-
فإني أخشى عليك هذين السبعين يقصدُ النابغةَ َوعلقمة
-
إني أخشى عليك هذين إن يفضحاك، وفضيحتك فضيحتي
-
وذلك أن حسان كان يمتُ إلى الملك بصلةِ قرابة
-
قال الملك لحسان :
-
كف عن قول الشعر فإنك لا تحسن أن تقول مثل النابغة
-
قصيدة يقول فيها :
-
رقاقُ النعالِ طيبُ حُجزاتُهم يُحَيونَ بالريحان يومَ السباسب ِ
-
إذا ما غزوا بالجيشِ حلق فوقهم عصائبُ طيرِ تهتدي بعصائبِ
-
ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم بهن فلولٌ من قراعِ الكتائب ِ
-
ولا يحسبونَ الخيرَ لا شرَ بعدَه ولا يحسبون الشرَ ضربة َلازب ِ
-
فأبى حسانُ إلا أن يقول الشعر
-
وكان رضي الله عنه شاعراً فحلاً واثقاً من نفسه
-
فكان مما قال:
-
لله درُ عصابةٍ نادمتُهم يوماً بجِلقَ في الزمانِ الأولِ
-
يمشونَ في الحُللِ المُضاعَفِ نسجُها مشيَ الجِمالِ إلى الجمال ِالبُزلِ
-
الضاربون الكبشَ يبرُقُ بيضُهُ ضرباً يَطِيحُ له بنانُ المَفْصِل
-
والخالطون فقيرَهم بغنِيهم والمنعمون على الضعيفِ المُرملِ
-
أولادُ جفنةَ حول قبرِ أبيهِمِ قبرِ بنِ ماريةَ الكريمِ المُفضلِ
-
يُغشوْن حتى ما تهرُ كلابُهم لا يسألون عن السوادِ المُقبلِ
-
بيضُ الوجوه ِكريمةُ أحسابُهم شمُ الأنوفِ من الطرازِ الأولِ
-
فما زال عمرو يتمايلُ سروراً ويقول : هذا وأبيك الشعر
-
هذه التي بترت المدائحَ كلها
-
فكان الغساسنة يؤون الشعراء
-
والنابغة لم يكن بِدعا من الشعراء
-
فقد ذهب وأوى أليهم خوفاً من النعمان - قال:
-
ملوكُ وإخوانٌ إذا ما أتيتُهم أُحكم في أموالهم وأقربُ
-
كفعلك في قومٍ أراك اصطنعتَهم فلم أرهم في شكرِ ذلك أذنبوا
-
فلا تتركنِّي بالوعيدِ كأنني إلى الناسِ مطلي ٌبهِ القارُ أجرب
-
والنابغة رجلٌ دبلوماسي من الطرازِ الأول، رجل سياسة
-
يعرفُ كيف يسوقُ الكلام
-
يقول ُ للملك يعلل له كيف ذهب إلى الغساسنة ومدحهم وترك النعمان خلفه
-
ويقول أن مدحه للغساسنة ليس سُبة فيه
-
بل هو عادة جرى عليها الشعراءُ في مدح الملوك
-
يقول :
-
كفعلك في قوم أراك اصطنعتَهم فلم أرهم في شكر ذلك أذنبوا
-
والنابغةُ رجل سياسة ، رجل دبلوماسي، رجل من الطراز الأول
-
رجلٌ اعتاد مخالطةً الملوك، انظر كيف يدلي بحجته
-
وكيف يُقنعُ النعمانَ، انظر كيف ساق الكلام
-
يقول: فعل الغساسنة بي مثل فعلك مع قوم احسنت اليهم فشكروك
-
ولست أرى ذنبا أنهم شكروك على صنيعك لهم وإحسانك إليهم
-
فأنا كذلك لم أذنب حين مدحتُ من أحسنوا إلي من الغساسنة
-
ثم قال له :
-
فلا تتركنِّي بالوعيد كأنني -يستعطفه - إلى الناس مطلي به القارُ أجربُ
-
يقول فلا تهددني فأهرب وحيدا بعيدا عن الناس
-
ولا يقدر أحدٌ من العرب أن يجيرني منك
-
ويتحاشاني كل الناس
-
يتحاشوني كجملٍ أجرب مدهونٍ بالقار
-
معزولٍ عن بقية الأبل لئلا يعديها.
-
و (الوعيد) هو التهديد
-
و(القار) هوالزفت، وهو سائلٌ أسود تطلى به الإبل وتطلى به السفن
-
ثم مدح النابغةُ النعمان َ مدحاً عجيبا
-
قال :
-
ألم تر أن الله أعطاك سُورةً ترى كلَ ملْك دونها يتذبذب
-
يقول فإن كنت مدحت الملوك ، فإنك أعزُ ملك
-
وأرفعُ ملكٍ مقاما
-
وأن الله رفع قدرَك على ملوكِ الأرض
-
وأعطاك العز والشرف
-
بحيث يتضاءلُ كل ملكٍ بحانبك
-
وكل الملوكِ لهم منزلة ٌ تحت منزلتك
-
ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كلَ ملْك دونها يتذبذب
-
ألم تر أن الله أعطاك سُورة ترى كلَ ملْك دونها يتذبذب
-
و(السورة) هي العز والشرف والمنزلة
-
والسينُ والراءُ والواو، أصلٌ واحد يدلُ على ارتفاع
-
ومنه أخذت سورة القرآن.
-
(يتذبذب) الذبذبة حركة فيها اضطرابٌ وعدم استقرار.
-
يقول للنعمان وقد وصفه وصفاً عجيباً في هذا البيت
-
فإنك شمسٌ والملوك كواكب ُ إذا طلَعَتْ لم يبد منهن كوكبُ
-
يشبه النعمانَ والملوكَ الآخرين تشبيهاً عجيبا
-
يقول له أنت شمسٌ في عزكَ وظهورك وغلبتك وكرمك وانتشارك
-
وهم نجوم صغيرة ضوؤها خافت.
-
وإذا طلعت الشمسُ غابت النجوم
-
فإنك شمس والملوك كواكبُ إذا طلَعَتْ لم يبد منهن كوكب
-
ويقول له، يعظه موعظة حسنة
-
وهذا البيت قد سارت به الركبان
-
ولستَ بمستبقٍ أخا لا تــَلّمُهُ على شَعثٍ. أي الرجال المهذب؟
-
فهذا بيت مشهورٌ فيه حكمة سارت مسيرَ الشمس
-
يقول له
-
إذا عاقبت أخوانك على خطأ ارتكبوه لم يبق لك أخٌ قط
-
وبقيت وحدك ليس حولك أحد
-
فيجب أن تعفو وتغفر وتتغاضي عن أخطاء الذين تحبهم
-
وتأخذ بأيديهم إذا سقطوا وأخطأوا
-
وتصلحَ أحوالهم وتجمعَ ما تفرق من أمرهم.
-
فالخطأ والزللُ والنقصُ طبيعة في البشر
-
. فأيُ الناسِ مبرأ من العيوب؟ أي الرجال المهذبُ ؟! لا أحد
-
وبهذا ألزم النابغةُ النعمانَ أن يعفو عنه
-
(الشَعْثُ) انتشارُ الأمر وتفرقه. يقال لم الله شعثه :
-
أي جمعَ ما تفرق منه.و (المهذب) هو النقيُ من العيوب.
-
ولستَ بمستبقٍ أخا لا تــَلّمُهُ على شعثٍ. أي الرجال المهذب؟
-
ثم يختم بقوله :
-
فإن أكُ مظلوما فعبد ظلمتَه وإن تك ذا عتبى فمثلك يُعتِبُ
-
ينهي قصيدته ويقول : فإن كنتُ مظلوماً أيها الملكُ
-
فما أنا إلا عبدٌ احتملَ ظلمَ سيده ومولاه
-
وإن كنت تريدُ أن ترضى على من أغضبك
-
فأنت أهلٌ لذلك ، فأنت أهلٌ لأن ترضى وأنت أهلٌ لأن تعفو
-
و(العتبى) هي الرضى والعفو عن الذنب.
-
يقول له :
-
ألم تر أن الله أعطاك سُورة ترى كلَ ملْك دونها يتذبذب
-
فإنك شمسٌ والملوك كواكبُ إذا طلَعَتْ لم يبد منهن كوكب
-
ولستَ بمستبقٍ أخا لا تــَلّمُهُ على شعثٍ. أي الرجال المهذب؟
-
فإن أكُ مظلوماً فعبدٌ ظلمتَه وإن تك ذا عتبى فمثلك يُعتِبُ
-
هذا والله تعالى أعلمُ بالصواب، وإليه سبحانه المرجعُ والمآب
-
وهو على كل شئ قدير، وبعباده لطيفٌ خبير
-
والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته