أنا مهندس بالتدريب، ورائد أعمال باختياري، تعلّمت أن أكون منطقيًا، وأفكر كناقد، وأبحث عن مشاكل لحلّها. لكن منذ فترة وجيزة، بدأت بتقدير حقيقة أن بعض الأمور، غير أنها تتطلب حلًا بسيطًا، تتطلّب الفهم. سأبدأ بإخباركم قصة عن جيمي وابنها جيكوب ذو الثماني سنوات. في الواحد والثلاثين من ديسمبر 2013، كان جيمي وجيكوب يستعدّان للذهاب إلى حفل ليلة رأس السنة عند أخت جيمي. يستعدّان للخروج من باب منزلهم، وتدرك جيمي فجأة أنها نسيت تحضير الطعام، كما طلبت منها أختها. شعرت بالغضب لثوانٍ ثم قالت: "الأمر غير مهم، سنذهب إلى المتجر ونشتري بعض الطعام، وزجاجة شامبانيا لنستمتع بوقتنا." كانوا على عجلة من أمرهم عند ركوبهم السيارة وذهبا إلى المتجر. ولحسن الحظ وجدا مكانًا لركن السيارة أمام المدخل. ودخلت جيمي يتبعها جيكوب إلى الردهة لتجد الآلاف من الأفراد على خلاف أي يوم عادي آخر. وتتجه بسرعة إلى قسم "وجبات خفيفة للحفلات"، تستدير من الزاوية وتسمع صوت اصطدام عالٍ فجأة. تستدير جيمي وترى أنّ جيكوب هدم رف المعروضات. وهو مستلقٍ على الأرض يصرخ ويركل بقدميه قابضًا يديه بشدّة ويضرب رأسه مرارًا وتكرارًا. وبمساعدة رجلين بالغين تمكنّت جيمي من وضع جيكوب في السيارة. وتقييده بالأحزمة للعودة إلى المنزل، حيث استمرت في تهدئته لمدة 3 ساعات. وعندما هدأ أخيرًا، تنهار جيمي على الأريكة منهكة تمامًا. لا تستطيع إلا الدعاء أن يكون العام الجديد أفضل. يعاني جيكوب من اضطراب طيف التوحد، كطفل من بين كل 68 طفل مولودين الآن. بعض صفات مرض التوحد تشمل صعوبات في القدرة على التواصل، وصعوبات في التفاعل الاجتماعي والإدراك العاطفي، وحساسية مفرطة للأصوات والروائح المختلفة، وللتغيّرات في الروتين والبيئة المحيطة. وكما توحي تسميته، التوحد هو اضطراب طيف، ويشمل عددًا كبيرًا من الأفراد، ابتداءً من الأفراد شديدي الذكاء والأداء إلى من أداؤهم ضعيف ويقومون بتصرفات خطيرة، كالأطفال والمراهقين الذين كانوا في منشأة للرعاية عملت لديها أختي الكبرى قبل عامين. كان هؤلاء الأطفال يتصرّفون تصرفات خطيرة جدًا لدرجة أنه لم يتبق خيار لعائلاتهم إلّا نقلهم إلى منشآت الرعاية لمدة 24 ساعة و7 أيام في الأسبوع، و365 يومًا في السنة. في تلك الليلة، بينما كان جيكوب وجيمي يستعدان، لاحظ جيكوب أن والدته قالت كلمة بصوت منخفض، كلمة سمعها تقولها مرة واحدة قبل 13 يومًا، عندما ضرب إصبع قدمها طاولة المطبخ. يدخلان إلى السيارة، ويلاحظ جيكوب أن والدته اختارت المفاتيح الخاطئة التي تخدش مقبض باب السيارة، ولم تعمل من المرة الأولى التي حاولت فيها تشغيل السيارة. يذهبان باتجاه منزل خالته، يتوقفان للدخول إلى متجر، عكس ما جرت عليه العادة. وركنا السيارة عند المدخل بخلاف ما اعتادوا عليه. فعادةً ما تُركن بين الحواجز فيعد جيكوب عربات التسوق في طريقهم إلى المتجر. يدخلان إلى الردهة، ويعد جيكوب 21 فردًا في يوم ثلاثاء عادي. يسمع صوتًا مألوفًا لكن غير مريح، صوت حاد لعجلة تالفة لعربة يجرّها الرجل الطويل في القسم 13 ويصطدم. الحقيقة أن جيكوب وجيمي يريان العالم بطريقة مختلفة. ترى جيمي الغابة كاملة، ويلاحظ جيكوب كل ورقة على كل غصن على كل شجرة في تلك الغابة. لكن التوّحد ليس أمرًا يصنّف جيكوب على أنه مشكلة يجب إيجاد حل لها. هو إنسان. لديه جوانب قوة وضعف ومواهبه الفريدة. مثل أي شخص، يستحق أن نفهمه كأي شخص آخر. كيف نبدأ بفهمه؟ توجد طبقة تسمى القشرة داخل كل دماغ بشري، وتقع في الأعلى. وهي مسؤولة عن الأفكار عالية المستوى. أمور مثل المنطق والتحكم بالدوافع، والقدرة على فهم كيف يشعر ويفكر شخص ما. لذا إذا فكرت في أي حديث عادي، مثلًا جلوسك على الطاولة وحديثك مع صديقة لك، وتكون ردودها قصيرة ومباشرة ومتذمّرة... وقد يعني هذا أنك لم تعد تعجبها، أو أن يومها كان طويلًا. وأن مديرها يسألها باستمرار حول العرض التقديمي القادم. فبدلًا من الحكم على انفعالها، اصغِ لما تقوله وأعدّ لها كوبًا من الشاي. فلديها الكثير لتقوله. تساعد القشرة الدماغية على تصنيف المعلومات التي تتأثر باستمرار مع كل لحظة تمر بها خلال اليوم. بينما أقف هنا والإضاءة المشعة على وجهي، وأشعر بوجود أصوات وروائح غير مألوفة في القاعة، وبعضكم يترنح في مقعده، وآخرون على الشرفة يكتبون منشورات على تويتر. (ضحك) تستقبل القشرة الدماغية لدي هذه المعلومات وتعالجها وتصنّفها ويمكن أن تصنّفها جميعها تلقائيًا. هذا أمر رائع، لأنه إن لم تفعل ذلك وكان علّي تصنيف المعلومات بوعي، لن يكن كلامي مترابطًا الآن، ولن أكون واقفًا هنا في الحقيقة. فإن دماغ من يعاني من التوحد يعمل بشكل مختلف. هو أكثر تركيزًا على التفاصيل. هذا النهج التصاعدي لا يعني أن القشرة غير موجودة بالضرورة. أو ليس لها دور أبدًا. بل إن الحالة الافتراضية هي عدّ كل ورقة على كل غصن على كل شجرة بدلًا من الغابة ككل. مع ذلك فإن التركيز على التفاصيل يجعلك تقوم بأمور رائعة، سواء كان ذلك تكرار سمفونية بأكملها بعد سماعها لمرة واحدة، أو نشر بحث علمي في الرياضيات التطبيقية قبل سن الثالثة عشرة، أو تصنيف آلاف السطور من التعليمات البرمجية وتحديد الأخطاء الدقيقة التي تساعد شركة ما على تحسين منتجها. يمكن أن يكون ذلك صعبًا. مع هذين النظامين المختلفين جذريًا، يسهُل فهم كيف أن جيكوب وجيمي يواجهان صعوبة في رؤية العالم بعيون بعضهما بعضًا. دون شك، البعض منكم هنا اليوم يعرف أو عمل مع شخص مصاب بالتوحد، أو من الممكن أن يكون طفلك أو أحد أصدقائك شُخّص بالإصابة بالتوحد. وستعرف، وستعرف فعلًا، معاناة الأهل والآباء والأمهات في فهم أطفالهم. سواء كان هذا إنفاق 40000 إلى 60000 دولار كل سنة لتغطية التكاليف غير الطبية فقط، التي لا تتعلق برسوم مراجعة أي طبيب أو أي نوع من الأدوية. لتوضيح الفكرة، هذا أكثر من 56 مليار دولار يُنفق كل عام في أمريكا الشمالية وحدها. وهذا فقط رقم بالدولار، فالأمر أصعب من ذلك. يقدّم الأهل والوالدان كل ما بوسعهم لطفلهم يحسّنون من جوانب القوة، ويعملون على جوانب الضعف، ويكتشفون مواهبهم. سواء بتعبئة المجلدات المليئة بالمخططات لتتبّع كل شي من علاج إدارة السلوك إلى جودة النوم والنظام الغذائي، سواء بطلب تعزيز الشمولية في الغرفة الصفية من إدارة المدرسة، أو بمحاربة التغييرات في قانون وقف التمويل عن فئة عمرية محددة، أو حتى كتابة بحث بمستوى الدكتوارة لفهم خيارات علاج طيف التوحد المتوفرة. ومع ذلك، مع ذلك فإن مواقف كموقف جيمي وجيكوب في المحل لا تزال تحدث. وما زالت منشآت الرعاية كالتي عملت فيها أختي موجودة. لأنه على الرغم من الجهد والموارد التي تُقدّم لرعاية مرضى التوحد، تبقى الكثير من التحديات علينا التغلّب عليها للمساعدة في فهم اضطرابات طيف التوحد والأشخاص الذين يتعايشون معه. على الرغم من نواياي الحسنة، لا أزال أفكر كمهندس. ربما لأن خمس سنوات متتالية من التعليم ما بعد الثانوي لا تُنسى بسهولة لكن عندما كانت أختي تأتي إلى البيت وتتحدث عن هؤلاء الأطفال التي تعمل معهم، بدأت بالبحث. وتبيّن أنه تُجرى أبحاث رائدة في جميع أنحاء العالم، للبحث في العلاقة بين التوحد والإشارات، هذه أمور تشمل معدل ضربات القلب والحرارة والتعرّق، وكيف ترتبط بالتغيرات النفسية والعاطفية التي تحدث داخل الشخص. تظهر هذه الإشارات الجسدية تلقائيًّا، وحتى في اللحظات التي تسبق إدراكنا لها عن وعي. كيف نطبّق هذه المعرفة والمفاهيم؟ كيف نحدث تأثيرًا على عائلات مثل عائلة جيمي وجيكوب؟ إذا تخيّلت للحظة خلال هذا العام، عندما يستعد جيمي وجيكوب للذهاب إلى ذلك الحفل مرة أخرى، وتنسى جيمي الوجبات الخفيفة، يضع جيكوب أداة صغيرة هذه المرّة، أداة بأجهزة استشعار، مرتبطة بتطبيق على هاتف جيمي. عند دخولهما إلى الردهة المكتظة هذه المرّة، سيصل إشعار لجيمي يخبرها أن جيكوب ليس على ما يرام. ويتمكنان من الخروج من المحل، والبدء بتمرين تنفس للاسترخاء، ويكملان مهامهما معًا. كلاهما هذه المرّة يمكنه الاحتفال برأس السنة مع أحبائهما. شكرًا لكم. (تصفيق)